يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال صفحتنا على فيسبوك
إضغط هنا للإشتراك
إيلاف من بيروت: لم يكن التأزم الذي شهدته العلاقات اللبنانية - السعودية والخليجية وليد ساعته، ولا يقتصر على التصريحات التي أدلى بها وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي في مقابلة أجريت معه في 5 أغسطس (آب) الماضي، قبل تعيينه وزيراً وبُثت في 25 أكتوبر (تشرين الأول) على موقع "يوتيوب"، بل إن الانهيار الذي أصاب العلاقة بين بيروت والرياض وعواصم خليجية أخرى وقع بعد تراكمات من التأزم والتوتر خلال الأعوام الماضية، تخللته محاولات لتصحيح تلك العلاقات التي شهدت تموجات كثيرة، ووعود لبنانية للمسؤولين السعوديين بإزالة أسباب اعتراضهم على انصياع السلطات اللبنانية لهيمنة "حزب الله"، لسياسات إيران العدائية للمملكة وللدول الخليجية.
وبحسب "إندبندنت عربية"، بات عمق الأزمة أكبر من تصريح قرداحي والموقف منه، مع حديث وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان عن أبعاد جوهرية أكثر في الأزمة الراهنة، لا سيما حين قال: "إن أصول الأزمة ترجع إلى التكوين السياسي اللبناني الذي يعزز هيمنة جماعة حزب الله المسلحة المدعومة من إيران... والقضية أوسع بكثير من الوضع الحالي، ومن المهم أن تصيغ الحكومة في لبنان أو المؤسسة اللبنانية مساراً للمضي قدماً بما يحرر لبنان من الهيكل السياسي الحالي، الذي يعزز هيمنة حزب الله".
الخيبات من الوعود اللبنانية
فالوعود التي تلقتها الرياض من الجانب اللبناني على مدى السنوات الأخيرة لتصويب مسار العلاقة، ذهبت أدراج الرياح ما سبب خيبات سعودية وخليجية متتالية في محطات عدة، إذ إن "حزب الله" ومن ورائه إيران، أمعنا في توظيف نفوذهما على القرار اللبناني في الموقف من أحداث إقليمية كثيرة أبرزها الحرب في اليمن، حيث تدعم طهران بلا مواربة الانقلاب الذي نفذه "أنصار الله" بالاتفاق مع الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح في البلد الجار للسعودية وسيطرتهم على العاصمة صنعاء في عام 2014 ثم اجتياحهم العديد من المناطق اليمنية وصولاً إلى تهديدهم مصير الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي وحكومته، والذي طلب تدخل المملكة والدول العربية لإنقاذ الشرعية. فالمملكة كان لها دور رئيس في مساعي إيجاد الحلول للأزمة اليمنية منذ بداية الألفية الثالثة ونجحت أكثر من مرة في التوصل إلى اتفاقات بين المكونات اليمنية، لكن الحوثيين أفشلوا تطبيق مخرجاتها معظم الأحيان.
ووفقًا لتقرير "إندبندنت عربية"، لم يقتصر الصراع بين الدول الخليجية وإيران، على الساحة اليمنية، بل تعداه إلى تدخلاتها في هذه الدول وسعيها إلى خلق أدوات لها فيها، مستندة إلى علاقات عقائدية مع بعض الشيعة العرب، وتشجيعها قيام خلايا نفذت وحاولت تنفيذ عمليات أمنية في البحرين والكويت (خلية العبدلي) والسعودية ودول عربية أخرى، ما زاد توتر العلاقة مع طهران.
الإخلال اللبناني بإدانة إحراق السفارة والقنصلية
لكن المحطة المهمة التي تورط فيها لبنان بانحيازه إلى المحور الإيراني كانت في 2 يناير (كانون الثاني) 2016 حين أحرق متظاهرون إيرانيون مبنى السفارة السعودية في طهران ومقر القنصلية السعودية في مدينة مشهد، خلال تظاهرة احتجاج دعمتها السلطات الإيرانية على تنفيذ الرياض حكم الإعدام بأشخاص متعددي الانتماءات دينوا بتهم الإرهاب بينها رجل دين موال لطهران. وإذ يعتمد "الحرس الثوري" الإيراني هذا الأسلوب في مهاجمة سفارات دول على الأراضي الإيرانية أو خارجها، نتيجة الخصومة مع دولها، فإن استهداف البعثات الدبلوماسية السعودية استوجب بعد أيام قليلة اجتماعاً لمجلس وزراء خارجية الدول الأعضاء في الجامعة العربية، الذي أصدر بياناً دان فيه العملية معلناً تضامنه مع السعودية.
امتنع لبنان ممثلاً في وزير خارجيته في حينها، رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، صهر العماد ميشال عون المرشح للرئاسة الأولى بدعم من "حزب الله"، عن التصويت على قرار الوزراء العرب ونأى بنفسه عن قرار الجامعة إدانة سلوك إيران، وطالب بإزالة الإشارة إلى "حزب الله" بعد ربطه بأعمال إرهابية في البيان الختامي مسجلاً اعتراضه عليه. برر باسيل موقفه المزدوج هذا بعدم مجاراة العراق والجزائر في حينها للإجماع العربي كل لسببه، بأنه تطبيقاً لمبدأ "النأي بالنفس عن الأزمات المشابهة"، فيما كانت السياسة الخارجية اعتمدت هذا المبدأ بهدف الابتعاد عن الخلافات العربية - العربية، ولا ينطبق على خلافات دول عربية مع دول أجنبية غير عربية مثل إيران. كما برر اعتراضه على إدانة "حزب الله" الذي كان تصدر حملة سياسية حادة على المملكة بعد تنفيذها حكم الإعدام بالمجموعة السعودية، بأن الحزب "ممثل في مجلس النواب ومجلس الوزراء اللبنانيين، وطلبنا إزالة هذه العبارة"، وفقًا لتقرير "إندبندنت عربية".
إلغاء صفقة تسليح الجيش و"المراجعة السعودية الشاملة"
سبب هذا الموقف ضجة لبنانية وخلافات داخلية فضلاً عن استغلال التباسات تناولت مدى اتفاق باسيل مع رئيس الحكومة آنذاك تمام سلام الذي كانت حكومته تتولى سلطات الرئاسة اللبنانية جراء الفراغ الرئاسي نتيجة تعطيل التئام النصاب القانوني للبرلمان لاختيار الرئيس الجديد بسبب إصرار "حزب الله" وحلفائه على انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية. وأفادت المعلومات في حينها أن سلام اتفق مع باسيل على الامتناع عن التصويت على اعتبار الحزب إرهابياً، باعتباره ممثلاً في البرلمان والحكومة، لكنه مع الانسجام مع الموقف العربي في إدانة حرق المقرات الدبلوماسية السعودية في إيران، كما ورد في تقرير "إندبندنت عربية".
لكن بصرف النظر عن السجال الداخلي، حيث اعتبر العديد من القيادات بينهم زعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري أن موقف باسيل لا يعبر عن غالبية اللبنانيين وأن موقفه "استرضاء لإيران وإساءة لتاريخ لبنان، فإن غضب المملكة إزاء موقف باسيل دفعها إلى إعلان وقف مساعداتها لتسليح الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، والتي تقدر بحوالى أربعة مليارات دولار، في 19 فبراير 2016 . وهو مبلغ قرره الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز آل سعود عام 2013-2014، إبان رئاسة العماد ميشال سليمان للجمهورية، بتخصيصه 3 مليارات لتسليح وتدريب الجيش اللبناني ومليار لقوى الأمن الداخلي وسائر الأجهزة الأمنية. بررت المملكة قرارها بأنه "نظراً للمواقف اللبنانية التي لا تنسجم مع العلاقات الأخوية بين البلدين".
وقال مصدر سعودي رسمي حينها، "وقفت المملكة إلى جانب لبنان في كافة المراحل الصعبة التي مر بها، وساندته من دون تفريق بين طوائفه وفئاته"، مشيراً إلى أن مبالغ الدعم هذه جاءت "حرصاً على ما يحقق أمن لبنان الشقيق واستقراره ويحافظ على سيادته".
واعتبر المصدر في حينها أنه "رغم هذه المواقف المشرفة، فإن المملكة العربية السعودية تقابل بمواقف لبنانية مناهضة لها على المنابر العربية والإقليمية والدولية في ظل مصادرة ما يسمى حزب الله اللبناني لإرادة الدولة، كما حصل في مجلس جامعة الدول العربية وفي منظمة التعاون الإسلامي من عدم إدانة الاعتداءات السافرة على سفارة المملكة في طهران والقنصلية العامة في مشهد". ولفت إلى أن تلك الاعتداءات حظيت "بتنديد من كافة دول العالم ومن مجلس الأمن والمنظمات الدولية الأخرى، مقابل "المواقف السياسية والإعلامية التي يقودها ما يسمى (حزب الله في لبنان) ضد المملكة، وما يمارسه من إرهاب بحق الأمة العربية والإسلامية".
وأعلن المصدر أن السعودية "قامت بمراجعة شاملة لعلاقاتها مع الجمهورية اللبنانية بما يتناسب مع هذه المواقف ويحمي مصالح المملكة، واتخذت منها وقف المساعدات لتسليح الجيش اللبناني عن طريق الجمهورية فرنسا. وكان لبنان تسلم جزءاً من العتاد الفرنسي، لكن الرياض طلبت من باريس تحويل الجزء الباقي إليها".
وحملت قوى "14 آذار"، التي كانت ما زالت تجتمع في تلك الحقبة، "حزب الله" مسؤولية تدهور العلاقات مع المملكة وطالبته بالانسحاب من سوريا، ورفضت "تحويل لبنان إلى قاعدة تُستخدم لمعاداة أي دولة عربية، والمساس بسيادة أي دولة عربية". لكن هذه المواقف لم تردع "حزب الله" عن مواصلة حملاته على السعودية، وتدخلاته في اليمن وسوريا ودول الخليج.
حملات الحزب وتدخلاته في 2015 – 2016
سحب المساعدات للبنان أوائل 2016، توج جملة من الأحداث والمواقف خلال عام 2015، أوصلت الأمور إليه، فشغلت حكومة تمام سلام التي تألفت في 15 فبراير 2014. وفضلاً عن أن لبنان عاش الفراغ الرئاسي منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في 25 مايو (أيار) 2014، حتى 31 أكتوبر 2016، تاريخ انتخاب عون رئيساً، فإن واحدة من الأزمات التي نشبت مع دول الخليج في وجه سلام مطلع عام 2015، كان تصعيد "حزب الله" حملته على مملكة البحرين إثر اضطرابات أمنية في تظاهرات دعت إليها المعارضة الشيعية في المنامة. واتهم الأمين العام للحزب حسن نصر الله الحكومة البحرينية بإطلاق النار على المتظاهرين مستخدماً عبارات غير مألوفة، فاستدعت الخارجية البحرينية القائم بالأعمال اللبناني احتجاجاً ودعت حكومة لبنان إلى موقف من كلام نصر االله.
كذلك فعلت دولة الإمارات العربية المتحدة، فيما طلب الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي من السفير اللبناني في السعودية توضيحاً من الحكومة اللبنانية لموقفها. وأعقب ذلك بيان عن وزراء الخارجية العرب اتهم نصر الله "بالتحريض على العنف والإرهاب لزعزعة الاستقرار في البحرين"، داعياً حكومة لبنان إلى "إجراءات تضمن عدم تكرار هذه التصريحات البغيضة".
بدأ اعتراض الوزير باسيل على قرارات الجامعة العربية المستنكرة التدخلات الإيرانية منذ حينها، وأخذ الغضب الخليجي يتصاعد حيال موقف الخارجية اللبنانية، واعتبر باسيل أنه "إذا خيرنا بين الوحدة الوطنية وعلاقات لبنان العربية نختار الأولى ولا نفرط بالثانية"، فرد وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن محمد آل خليفة بالقول، إن "الوفد اللبناني فضل التمسك بوحدة وطنية زائفة على التضامن العربي الذي أنقذه من الاحتراب" قاصداً الرعاية العربية لاتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية. واستذكر الرجال الذين حكموا لبنان، مشيراً إلى تحكم "إرهابي عميل" به اليوم. وسعى الرئيس سلام، ابن العائلة البيروتية العريقة في السياسة اللبنانية، التي تتمتع بالاحترام في الخليج والسعودية، إلى تبديد بعض الغضب الخليجي وأي انعكاسات له على الجالية اللبنانية في دول الخليج، في بيان أكد فيه أن موقف الحكومة تعبر عنه مجتمعة، وهو ينطق باسمها "وليس أي جهة سياسية منفردة، حتى لو كانت مشاركة في الحكومة الائتلافية". وصدر بيان عن مجلس الوزراء بهذا المعنى، وفقًا لتقرير "إندبندنت عربية".
"عاصفة الحزم" ومواقف سلام
يقول مستشار الرئيس سلام، عبد الستار اللاز في كتابه الصادر حديثاً عن حقبة رئاسته للحكومة، والذي تضمن كثيراً من الوقائع عن الصراعات الداخلية، لا سيما إبان الفراغ الرئاسي المديد، وعن الأزمة مع دول الخليج، إنها انفجرت في مكان آخر، مع دولة الإمارات العربية المتحدة وسط معلومات عن نية سلطات أبو ظبي إبعاد لبنانيين منها.
وفي لقاء بين سلام ووزير خارجية الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد قدم خلاله الأخير عرضاً عن عمق العلاقات مع لبنان، قائلاً، إن الإمارات تستقبل كادرات وعمالاً من أكثر من مئة وسبعين دولة يعيشون في أمان واستقرار "وغير مستعدين للسماح باللعب بهذا الاستقرار من أجل فريق لبناني يناصبنا العداء ويشتمنا ليل نهار ويتدخل في شؤوننا"، معتبراً "حزب الله" حالة "شاذة". وفي أواسط مارس (آذار) أبعدت السلطات الإماراتية 90 لبنانياً، فشن "حزب الله" حملة على أبو ظبي.
لم يتوقف التراجع في العلاقات مع دول الخليج، بل أخذ منحى حرجاً بعد أن شن الحزب هجوماً عنيفاً وغير مسبوق قلب فيه الحقائق، على السعودية، إثر إعلانها مع دول مجلس التعاون (باستثناء سلطنة عمان)، الاستجابة لطلب الرئيس اليمني هادي المساندة لمواجهة "العدوان الحوثي المستمر المدعوم من إيران، وفي مواجهة "القاعدة" و"داعش". وأطلقت الرياض عملية "عاصفة الحزم" لدعم الشرعية اليمنية.
تداركاً لمفاعيل هجوم الحزب على العلاقات اللبنانية - السعودية، ألقى سلام بعد ثلاثة أيام كلمة في القمة العربية في شرم الشيخ، أكد فيها دعم الشرعية الدستورية في اليمن، معتبراً أن التدخلات الخارجية باتت خطراً على الأمن في المنطقة العربية ككل لا وحدة اليمن فحسب، متفهماً خطوة السعودية. وفيما أبدت دول الخليج ارتياحها لهذا الموقف الذي لقي تأييداً في بيروت من الحريري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وسائر قوى "14 آذار"، شن "حزب الله" وبعض حلفائه هجوماً على سلام واتهموه بأنه لم يعرضه على مجلس الوزراء، فرد بأنه لا يحتاج إذناً من أحد لاتخاذه.
في خلال زيارة له إلى السعودية، التي استقبلته بحفاوة، في 2 يونيو (حزيران) 2015 أثار سلام التسريبات عن نية المملكة تجميد هبة الـ4 مليارات دولار للجيش وقوى الأمن وسائر المساعدات التي تقدمها المملكة، فكان الجواب، بحسب ما تضمنه كتاب المستشار عبد الستار اللاز، أن هناك مخاوف من أن تنتقل الأسلحة التي سيتم تمويلها إلى "حزب الله".
لكن في ظل الانقسام اللبناني بين فريق "حزب الله" وخصومه، تواصلت المواجهات بفعل الحملات السياسية والإعلامية ضد المملكة، وسانده حليفاه، عون وباسيل. الأخير كرر رفض قرارات الإدانة لتدخل إيران في الدول العربية واليمن، في اجتماعات الهيئات والمنظمات العربية والإسلامية والدولية، في ظل اعتراض القوى السياسية المتضامنة مع الموقف الخليجي، الذي ساء دوله خروج فريق لبناني عن التضامن العربي مراعاة لتحالفه مع طهران، إلى أن أعلنت السعودية عن وقف هبة الـ4 مليارات دولار مطلع 2016. ولهذه المواجهات فصول ووقائع كثيرة، بالتناغم مع تصاعد الصراع الداخلي على السلطة واستمرار الفراغ الرئاسي زهاء عامين ونصف العام.
انتخاب عون ومراهنة الحريري
أهمية العودة إلى تلك الحقبة أنها أسست للمحطات التالية، مسببة تصاعد الحساسية الخليجية حيال جهود "حزب الله" لمصادرة القرار اللبناني، والتي تنقلت بين محطات عدة أوصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم من انهيار غير مسبوق في العلاقات.
وليس مجافاة للموضوعية الإشارة إلى أن تلك الحقبة تزامنت مع جنوح إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما التي استفادت منها إيران من أجل تعزيز مشروعها لمزيد من النفوذ في دول المنطقة، مقابل موافقتها على الاتفاق النووي الذي كان أولوية بالنسبة إلى الإدارة الأميركية. كما أنها المرحلة التي شاركت فيها طهران منذ عام 2012، و"حزب الله" في الحرب السورية، التي انغمست فيها روسيا في سبتمبر (أيلول) 2015 دفاعاً عن نظام الرئيس بشار الأسد.
وفيما ألحقت الرياض قرارها وقف هبة الـ4 مليارات ومعظم دول الخليج بسحب السفراء وحظر سفر مواطنيها إلى لبنان، كانت جهود إنهاء الفراغ الرئاسي اللبناني قادت الحريري إلى فتح حوار مع "حزب الله" بإلحاح من رئيس البرلمان نبيه بري وجنبلاط للحيلولة دون الفتنة الشيعية السنية، تحت شعار "ربط النزاع"، تبعه حوار زعيم "المستقبل" مع النائب سليمان فرنجية لتأييده كمرشح لرئاسة الجمهورية من أجل إنهاء الفراغ. لكن إصرار "حزب الله" على تأييد العماد عون للرئاسة، رجح خياره الذي كان الحريري خاض حواراً معه في هذا الصدد. وأخذت السعودية حذرها حيال توجه الحريري هذا، ولم تقتنع بحجة إمكان إبعاد عون عن الحزب في حال تبوأ الرئاسة، بالاستناد إلى رغبة الأخير في تحقيق إنجازات خلال عهده. إلا أن المعطيات عما سبق انتخاب عون تفيد بأن القيادة السعودية تركت للحريري أن يقرر خياره بنفسه، من دون أن تلتزم بدعمه مفضلة اختبار ما سماه هو "المخاطرة" التي قرر ركوبها بانتخاب عون للرئاسة، بحجة أن الزعيم المسيحي الآخر رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع فضل عون على فرنجية بحيث باتت القوتان المسيحيتان الأبرز معه، بحسب تقرير "إندبندنت عربية".
مع انتخاب عون، حاولت الرياض اختبار حكمه فاستقبلته في أول زيارة له إلى الخارج، في 9 يناير 2017، إثر 9 أسابيع على تسلمه دفة الرئاسة. وصرح عون بأن لبنان لا يمكن أن يستغني عن دعم المملكة. وكانت حفاوة الاستقبال ملفتة، في سياق هذا الاختبار.
عون يبرر سلاح الحزب
إلا أن الرئيس اللبناني لم يلبث، في مارس 2017 أن أدلى بتصريحات تعاكس الآمال من وراء الانفتاح السعودي عليه، فقال في حديث مع إحدى القنوات المصرية، بـ"ضرورة وجود سلاح حزب الله في لبنان كسلاح للمقاومة مكملاً للجيش اللبناني طالما إسرائيل تحتل أرضاً، والجيش اللبناني ليس قوياً كفاية ليقف في وجهها". وبرر عون تدخل الحزب في الحرب السورية بأنه لمواجهة المجموعات الإرهابية.
وفي موازاة مراعاة مواقف الحزب في تصريحات القياديين في "التيار الحر"، فإن نصر الله استمر في هجومه على المملكة وموقفها في اليمن، ولم يراعِ محاولات الحريري كرئيس للحكومة من أجل تحسين العلاقة مع المملكة، في وقت لم يتوقف الحزب عن تأييد الحوثيين الذين احتضن الحزب بعض قيادييهم في ضاحية بيروت الجنوبية. وانتشرت معلومات عن أن بعض مقاتلي هؤلاء يتدربون على يد الحزب في سوريا أو في البقاع اللبناني، فيما يحمي الحزب محطتين تلفزيونيتين تابعتين لـ"أنصار الله" في أطراف الضاحية القريبة من العاصمة بيروت، كما جاء في تقرير "إندبندنت عربية".
حتى أن نصر الله في بعض خطبه كان يستبق المفاوضات التي جهدت الأمم المتحدة لتجديد جولاتها في الكويت أو في سلطنة عمان، وفي أوروبا، بين الفرقاء اليمنيين، بوصفه المقترحات المطروحة لوقف الحرب بأنها إملاءات وأشبه بالاستسلام، وذلك قبل كل جولة. أوحى ذلك بأن الأمين العام لـ"حزب الله" هو الذي يعطي التوجيهات لميليشيات الحوثيين حول الموقف في المفاوضات. وفوق ذلك بدأ الحوثيون بإطلاق الصواريخ البعيدة المدى من صناعة إيرانية، على المنشآت والمطارات السعودية، بأسلحة إيرانية، مع تسرب معطيات ومقاطع فيديو عن تولي قياديين من الحزب تدريب الحوثيين على العمليات الأمنية.
طفح الكيل وخيبة من الوعود
طفح الكيل عند المسؤولين السعوديين ثانية في 2017، بالتزامن مع مراعاة فريق عون لعدائية الحزب للرياض، وأدى ذلك إلى إعلان وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج، ثامر السبهان، أن بلاده ستتعامل مع الحكومة اللبنانية "كحكومة حرب"، بسبب مواقف "حزب الله" مؤكداً أن المملكة لن ترضى أبداً بأن يكون لبنان مشاركاً في الحرب على السعودية.
وسرعان ما استنتج المسؤولون السعوديون بأن مراهنة الحريري على إبعاد عون عن الحزب فشلت وأن على السلطة اللبنانية أن تأخذ موقفاً يردع تدخلات الحزب ضدها. وهو ما أدى، بحسب مصادر سياسية متعددة، تراجع في علاقة المملكة بزعيم "المستقبل".
وقال السبهان: "المملكة العربية السعودية لن ترضى أن يكون لبنان مشاركاً في حرب على السعودية وسنعامل حكومة لبنان كحكومة إعلان حرب بسبب ميليشيات حزب الله".
واعتبر أن "ميليشيات "حزب الله" تؤثر في كافة القرارات التي تتخذها حكومة لبنان، و"كنا نتوقع من الحكومة اللبنانية أن تعمل على ردع حزب الله فهو يشارك في كل الأعمال الإرهابية التي تهدد السعودية، والمملكة ستستخدم كافة الوسائل السياسية وغيرها لمواجهته".
ودعا اللبنانيين إلى "الاختيار بين السلام والانضواء تحت حزب الله، بيد اللبنانيين تحديد ما ستؤول إليه الأمور مع السعودية، واللبنانيون قادرون على إيقاف تجاوزات ميليشيات حزب الله".
تسبب ذلك في استقالة الحريري في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 وعاد عنها وفق تسوية مع عون وسائر القوى السياسية تقضي بالتزام أطراف الحكومة سياسة النأي بالنفس عن الصراعات والحروب اللبنانية. وجرت محاولة جديدة لرأب الصدع، فزار المستشار في الديوان الملكي السعودي نزار العلولا بيروت موفداً من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، ناقلاً رسالة منه ومن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الرئيس عون تؤكد "دعم المملكة للبنان وسيادته واستقراره ومتانة العلاقات الثنائية"، مع الحرص على أن تكون "في أفضل أحوالها".
وفي مرحلة لاحقة ونتيجة لإصرار الحريري، أعلن السفير في بيروت وليد بخاري عودة المملكة عن رفع الحظر عن سفر السعوديين إلى بيروت. وتولى الأخير بعد تشكيل الحكومة الثانية للحريري إثر انتخابات 2018 النيابية التفاوض على التحضير لـ22 اتفاقية بين البلدين من أجل تحريك الاستثمارات بينهما، في إطار الدعم السعودي لخطة نهوض الاقتصاد اللبناني، وفق ما قرره مؤتمر "سيدر" في باريس في 6 أبريل (نيسان) 2018 مقابل قيام الحكومة بالإصلاحات.
حالت التطورات اللاحقة فور اندلاع انتفاضة اللبنانيين ضد التدهور الاقتصادي في 17 أكتوبر 2019 والطبقة السياسية، ثم استقالة الحريري، دون المضي في وضع الاتفاقات موضع التنفيذ. ونأت السعودية بنفسها عن الوضع اللبناني، لا سيما أن "حزب الله" لم يلتزم مبدأ النأي بلبنان عن الصراعات العربية ولم يتوقف عن شن الحملات على المملكة، مضيفاً إليها ترداده مع الفريق الرئاسي الحاكم، بأنها تعيق تشكيل الحكومة بعد استقالة الحريري، وبأنها لا تريد عودته إلى تبوء المنصب، فيما هي لا تتدخل.
عون والفراغ الحكومي
وفي وقت يعتبر بعض السياسيين اللبنانيين أن غياب الرياض عن الساحة اللبنانية أتاح لـ"حزب الله" أن يعزز نفوذه، فإن المسؤولين السعوديين فضلوا الابتعاد والمراقبة في التعاطي مع تطورات الأزمة اللبنانية، خلال العامين الماضيين، لشعورهم بأن "حزب الله" يستفيد من واجهة الحكم من أجل الحصول على المساعدات الدولية، التي تنقذ الطبقة الحاكمة الحالية ومعها نفوذه. ولم تفلح جهود قامت بها فرنسا في الأسابيع الماضية لتشجيع الرياض على تقديم المساعدات للحكومة اللبنانية، إزاء الأزمة الاقتصادية الحادة التي يمر بها لبنان.
فالحزب قام بتغطية تسبب عون بالفراغ الحكومي أكثر من 13 شهراً، ما عمق سيطرته على القرار اللبناني. والحكومة لم تتشكل برئاسة نجيب ميقاتي إلا بعد اتفاقه مع عون والحزب. وهو ما أكد وجهة نظر المملكة، في وقت برهنت التطورات المتصلة بالخلاف الداخلي على التحقيقات في جريمة انفجار مرفأ بيروت أن الحزب يقوم بشل عمل الحكومة إذا لم تنفذ ما يريده. وبموازاة ذلك يواصل الحزب عدائيته لها في اليمن.
يستحيل فهم المحطة الأخيرة في تدهور العلاقة الخليجية اللبنانية، إثر تصريح وزير الإعلام اللبناني الموالي لـ"حزب الله" جورج قرداحي، المنحاز إلى الحوثيين والذي يعتبر تدخل السعودية والإمارات لدعم الشرعية "عدواناً على اليمن"، من دون العودة إلى المحطات التي تراكمت في السنوات الماضية. فالأمر يتعدى تصريح قرداحي الذي كان النقطة التي فاضت بها الكأس المليئة.